كلمة العدد

الحوار مع الغير..

والانتباه الذي يجب أن يصطنعه المسلمون تجاهَه

 

    

  

 

  

 

       تستمرّ الدعوةُ وتتكثّف هذه الأيّامَ لعقد الحوار مع أبناء الديانات الأخرى ، وتُبْذَل جهود لوضع أسس واستراتيجيّات له حتى يأتي مُثْمِرًا ، ويتجنّب الانعكاسات السلبيّة والآثار الضارّة . وذلك باعتباره وسيلةً جديدةً لتوثيق روابط التعاون بين أبناء الأمة الإسلاميّة في جانب وللتعايش بين الأمم والمجتمعات البشريّة في جانب آخر ؛ وباعتباره وسيلةً فاعلةً من وسائل الدفاع عن الإسلام في هذا العصر؛ وباعتباره وسيلةً قويّةً لمواجهة تحدّيات الانغلاق والجهل وضيق الأفق ؛ ليستوعب العالَمُ مفاهيمَ وآفاقَ رسالة الإسلام الخَيِّرَة.

       وبذلت ولاتزال رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة منذ سنوات مساعيَ حثيثة في هذه السبيل ، وعقدت لذلك أكثرَ من مؤتمر . وكان آخر مؤتمراتها في هذا المجال ، المؤتمر الإسلامي العالميّ للحوار ، الذي عقدته بمكة بتوجيه من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود/ حفظه الله وتحت رعايتــه ، الذي افتتحه بنفسه يوم الأربعاء : 30/5/1429هـ الموافق 4/6/ 2008م، واستمرَّتْ اجتماعاته ثلاثة أيام ليوم الجمعة 2/6/1429هـ الموافق 6/6/2008م ، وحضره أكثر من 400 عالم وداعية ومُفَكِّر ومُثَقَّف مسلم إلى جانب رجال الصحافة والإعلام المسلمين من شتى أنحاء العالم . كما شارك فيه مُمَثِّلُو مُؤَسَّسَات وجماعات إسلامية هنديّة ، وعلى رأسها الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند ، مُتَمَثِّلَةً في رئيسها الشيخ الصالح فضيلة الشيخ مرغوب الرحمن حفظه الله ورعاه ، الذي حَضَرَه رغم شيخوخته الكبيرة ومُضَاعَفَاتها المتزايدة ، نظرًا للأهمّية ودعوة ملحة من لدن خادم الحرمين حفظه الله على لسان الأمين العامّ للرابطة معالي الدكتور الشيخ عبد الله عبد المحسن التركي/ حفظه الله.

       وفي الفترة ما بين : الجمعة والأحد: 15-17/6/1924هـ الموافق 20-22/6/2008م عقدت لجنة القضايا والأقليات الإسلامية التابعة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي أسّسه ويرأسه فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بالدوحة عاصمة دولة قطر ، مؤتمرًا إسلاميًّا آخر في نفس الاتّجاه حضره نخب العلماء والدعاة والمفكرين المسلمين من أنحاء العالم من بينهم مُمَثِّلو مُنَظَّمَات ومُؤَسَّسات هنديّة ، وفي مُقَدِّمتها الجامعةُ الإسلاميّةُ دارالعلوم/ ديوبند ، حيث شارك فيه على دعوة من منظمي المؤتمر المسؤولين وفدٌ مُوَقَّر من أساتذة الجامعة الكبار ، ورأس الوفدُ بعضَ جلسات المؤتمر ، كما طرح أفكارًا ومُقْتَرَحات ذات أهميّة بالغة بالنسبة إلى الاتحاد الإسلاميّ الذي هو الأساسُ المكينُ الذي يمكن أن يكون مُنْطَلَقًا لجميع الخير والسعادة لهذه الأمّة ، رآها المُؤْتَمِرُونَ بعين الاعتبار والتقدير .

       إنّ ذلك كلَّه يمكن أن يُعْتَبَر مبادرة خَيِّرة من النُّخَب الإسلاميّة التي تُهِمُّها قضايا الإسلام والمسلمين في كل مكان ؛ حيث لا يدفعهم إلى ذلك إلاّ الإخلاص لهذه الأمة التي تكالبت عليها الأعداء وتَدَاعَتْ كتداعي الأَكَلَة إلى قصعتها ؛ فهم يتسارعون إلى انتشال الأمة من الورطة المعقدة التي أوقعها فيها الأعداء ، وتخليصها من الأزمات والتفكّك والاضطراب ، التي جعلتها لقمة سائغة للصهيونية العالمية وهدفًا مُسدَّدًا لمؤامرات الصليبية المتصهينة ، اللتين صارتا اليوم مُتَعَاوِنَتَين مُتَعَاضِدَتَين مُتَكَاتِفَتَين على محاربة الإسلام وغزو المسلمين في عقر دارهم ، باعتبارهم "مجرمًا عالميًّا مُدَانًا" يستحقّ كلَّ عقاب وتعذيب وتأديب ، حتى يرتدع عن جريمته الشنعاء المُتَمَثِّلة في إيمانهم بالله ورضاهم به ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً .

       ولكنَّ هناك قطاعًا عريضًا من العلماء والمفكرين ، يمارسون التحفّظ نحو هذه الدعوة الصارخة المتسارعة لإجراء الحوار مع هذا الغير القويّ المُتَآمِر على الإسلام المحارب للمسلمين عــن عمــد وعن تخطيط ، رغم كلّ الدلائل التي تجلّت لديه على حقيّة الإسلام وصدقيّة تعاليمه.

       ومن ثم جاء في الرؤية المطروحة من قبل وفد الجامعة الإسلاميّة دارالعلوم/ ديوبند في مؤتمر الدوحة المشار إليه أنّ الحوار والتلاقي مع أصحاب الديانات الأخرى الكثيرة ، رغمَ أنه لابأس به لإيجاد سلام عالميّ وبيئة آمِنَة للتعايش والتبادل إن أمكن تحقيقه ، يجب أن نكون مُتَيَقِّظِين حَذِرين ولاسيّما لدى الحوار مع المسيحيين واليهود الذين ظلُّوا يعادون الإسلامَ والمسلمين عَبْرَ أدوار التأريخ لحسد مركوز في طبيعتهم ضدَّ هذا الدين الحقّ ونبيّه وأتباعه . والتاريخُ يشهد أنهم لم يسالموا المسلمين قطُّ إلاّ عندما انهزموا ، ولم يصالحوا إلاّ لكسب الوقت وللإعداد المزيد للانقضاض على الإسلام والمسلمين بشكل أكثف ، وقوة أكثر ، ونشاط أوفر، ومؤامرة أبعد ، وتخطيط أخطر .

       وذلك لأنهم لايعــادون ولايحاربون الإسلام ، لأنهم يجهلون به وبحقيقته ، وإنما يحاربونه على علم بحقيقته وحقد دفين تجاهه في قلوبهم . وهذا الحسدُ والحقدُ لايمكن اقتلاعُه منها إلاّ أن يشاء الله.

       والميلُ للحوار أحسنُ منه أن تقيم الدول والجماعات والمنظمات الإسلاميّةُ مراكزَ وتُؤَهِّل كوادرَ لنشر الإسلام والتعريف به في كل لغة من لغات الدنيا الحيّة عن طريق الإعلام الفاعل والكتب الناجعة والكتابات المفيدة بهذه اللغات كلِّها ، بأسلوب يجذب أبناءَ العصر ، وعلى مستوى راقٍ رائع يستميلهم لقراءته ، والتأثـّر منه ، والتفاعل معه ، فالإيمان بحقية الإسلام ، فالدخول فيه ، أو ترك العداء معه.

       إنّ هذا العملَ هو الأجدر بالتبنّي من قبل الحكومات والأفراد والجماعات المتحركة فينا كخيار أوّلي ، حتى ينبغي أن تُؤْثِره على جميع المشاريع التي تودّ أن تحتضنها لخير الإسلام والمسلمين .

       وكذلك أحسن منه أن تُبْذَل مساعٍ مُتَّصِلَة مُكَثَّفة لتوحيد المسلمين وترتيب صفهم ورصِّ شملهم حتى يكونوا يدًا واحدة ضدّ كلّ عدوّ للإسلام والمسلمين ، نابذين وراءهم خلافاتهم الفرعيّة ، ومنطلقين من رصيف المشترك الإسلامي والهموم التي تهمهم جميعًا والقضايا التي تجمعهم . إنّ الحوار – كما يرى كثير من العلماء والمثقفين – مع أبناء الإسلام داخليًّا أوجبُ وأولى من الحوار مع الغير المتعالى المتكبر المتنكّر لكل فضل في الإسلام ولكل خير في المسلمين والمتصيّد لكل عيب قد لايوجد فيهم.

       توحيدُ الصفّ الإسلامي لم ينلِ لحدِّ الآن الاهتمامَ اللائقَ به رغم أنّ المسلمين لم يتضرّروا إلاّ من أجل الخلافات والتشتّت ؛ فهم يعيشون مظلومين مسحوقين في شتى بقاع العالم حتى في الأقطار التي يزعم أهلها من أبناء غير الإسلام أنهم مُتَنَوِّرُون ، وأنهم حاملون لواءَ الحقوق الإنسانية ، وأنهم سبقوا غيرَهم في وضع مواثيقها ؛ لكنهم رغم هذه الدعوى العريضة الجوفاء لم يكتفوا بإيقاع الظلم على بني البشر ولاسيّما المسلمين في ديارهم ؛ بل تَعَدَّوْها إلى ديار المسلمين أنفسهم ؛ فاحتلُّوها مباشرةً أو سَيْطَرُوا عليها بشكل لايمكن أن يُصَنَّف إلاّ احتلالاً لها بكل معاني الكلمة.

       وهذا الظلمُ لايمكن مواجهتُه إلاّ برصّ الصفّ الداخليّ وترتيب البيت الإسلاميّ واتّخاذ استراتيجيّة مُوَحَّدة . أمّا بدون ذلك فلا يتغيّر الواقعُ الذي نعيشه اليومَ : واقعُ الذلّ والاستسلام ، والاستشفاء بمن يُجَرِّعُنا السمَّ القاتلَ .

       إنّ القضيةَ الفلسطينيةَ التي أصبحتِ اليومَ قضيةً أُوْلَىٰ ، إنّما أُثِيْرَتْ واصْطُنِعَتْ لكون المسلمين مُشَتَّتِين ، فالأعداء لم يزرعوا غرسَ إسرائيل الخبيث في قلب العالم العربي وأرض فلسطين العربية الإسلاميّة المباركة ، إلاّ لأنهم وجدوا كيانَ الأمة مهزوزًا من الداخل ، لاقاسمَ يُوَحِّدُها ، ولامرجعيّةَ تجمعها ، إلى جانب كونها مُتَخَلِّفَةً في كل من مجالات الاقتصاد والتكنولوجيا والعلم الحديث والقوة العسكريّة.

       فنحن بأمسّ حاجة أن نتماسك من الداخل، بحيث يدرك الأعداءُ : الصهاينةُ ومن وراءَها من أمريكا والغرب أننا صوتٌ واحدٌ ويد واحدة وقلب واحد ضدَّهم في هذه القضية الإسلاميّة الأولى . ولابدّ أن نتوحّد رأيًا وخطَّةً وعملاً في شأنها ؛ فلا يجوز أن يقول الإسلاميّون ويعتقدون بحقٍّ أن الطريق إلى تحرير فلسطين واستعادة الأَرْض والعِرْض ، إنّما هو الجهادُ الشرعيُّ والمقاومةُ الباسلةُ التي ظلّت لحدّ اليوم تحيي القضيّةَ وتحول دون موتها ؛ فينهض العلمانيّون منّا وأصحابُ الحلّ والعقد فينا الموالون لأمريكا والغرب ؛ ليعارضوا الإسلاميين في رأيهم وعملهم ، قولاً وعملاً ، وليقولوا : إنّ "مفاوضات واتفاقيّات السلام" هي الطريق إلى فلسطين .

       إنّه يجب أن نتّخذ موقفًا مُوَحَّدًا ننطلق منه جميعًا إسلاميين وعلمانيين ، وقادة وشعوبًا ، وحُكَّامًا ومحكومين لمعالجة هذه القضية الكبرى. إنّ اتحاد الموقف والعمل في هذه القضية هو الذي سيُحَرِّرُ فلسطين ويُمَكِّن أهل الديار الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم .

       وإنّ التشتت والتشرذم هو الذي جَعَلَ الأمة تُعَانِقُ الأمِّيَّةَ التي استبدّتْ بمعظم أفراد الأمة ، حتى صارت – كما يقول الكتاب العرب – "أمةُ اِقْرَأْ لاتَقْرَأُ" إنه المؤسف حقًّا أننا عدنا متخلفين علمًا ومعرفة ، فتسخيرًا لذخائر الكون ومكنونات الأرض والجوّ وخفايا البرّ والبحر ؛ حتى عدنا نتكفّف الغربَ الحاقد علينا ليُعَلِّمنا ويُلْحِقنا بركبه العلميّ السيَّار؛ فلا بدّ أن نتسلح بالعلم ونتلقّف رايتَه كما كنا بالأمس ، فنعــود إلى سيرتنا ومكاننا ، ونكون مُعَلِّمِي العالم . إنّ جهودًا مُبَعْثَرَة يبذلها الأفرادُ والجماعاتُ منّا لاتكفي لإزالة داء الأميّة المزمن الذي أصابَها منذ أجيال متلاحقة ، وإنما الحاجة تمسّ إلى توحيد الخطّة والتضامن في العمل ، وشنّ حركة رسميّة وشعبية وفرديّة وجماعيّة ، حتى نكافح هذا الداء ، ونحوّل كلَّ فرد منّا متعلّمًا يقرأ ويُقْرِئ ، ويَعْرِف ويُعَرِّف .

       وكذلك هناك أمراض اجتماعيّة من بدع المناسبات لدى الأفراح والأتراح ، والزواج والموت ، أصابتنا من جرّاء الجوار غير الإسلاميّ وغير العربيّ وفي غياب عن التعليم الإسلاميّ الحيّ المنتعش المتحرك الذي يعمُّ كلَّ بيت من بيت المسلمين ، فيُصلِح ما فسد ، ويجبر ما انكسر ، ويجمع ما انشطر ، ويطهره من دنس الشرك ورجس البدع ، وظلام التقاليد غير الإسلاميّة .

       والتخلّف الاقتصاديّ الذي مُنِيَتْ به الأمه رغم مصادر الثراء ومقومات الرخاء شيء مؤسف ومُحَيِّر في الوقت نفسه ؛ لأن الاستعمار الفكري المُعَضَّد بالاستعمار العسكريّ امتصّ ولايزال خيراتنا ، وجعلنا نتغافل عن شرّه ومكيدته ، ونتعامى عن توظيف الوسائل توظيفًا مدروسًا مُثْمِرًا ، فأصبحنا ألعوبةً بيده يديرنا كما يشاء ويفعل بنا كلَّ ما يشاء ، وصرنا عالةً عليه نتكففه ونستجديه .

       وذلك لأننا مُوَزَّعُون قلبًا ، مُشَتَّتُون شملاً، لانصدر عن رأي مدروس ، وخطّة مُبَيَّتَة . ولو كنَّا متحـــدين ولــو على أساس القواسم المشتركة ، لما ضِعْنَا ضِيَاعَ الأيتام على مأدبة اللئام .

       الحوارُ مع الغير مع الحذر قد يكون جيّدًا مُجْدِيًا في هذا العالم الذي يعيش الغليانَ والتناحرَ، ويكاد المجتمع البشريّ يذبح المجتمع البشريَّ الآخر ، باسم إقامة السلام ، وتعميم العدل ، ومحاربة الإرهاب ، والقضاء على الإرهابيين ، وعلى الوسائل التي يستندون إليها في ممارسة الإرهاب والتدمير.

       ولكنّ الأجودَ منه هو التعريف بالإسلام عن طريق وسائل الإعلام الراقية التي استبدّ بها الصهاينة والصليبيّون الذين يتستّرون اليومَ في محاربة الإسلام والمسلمين بمحاربة الإرهاب والإرهابيين .

       إنّ الإسلام الأصيل الصافي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والذي يُمَثِّله الكتاب والسنّة مُحَارَبٌ اليوم في كل مكان من قبل الأعداء : الصهاينة والصليبيين ومن يقف بجانبهم من الوثنيين ، والعلمانيين والمتغربين ، والمتحررين والإباحيين ، ودعــاة الخلاعة والمجون ، وليس علينا إلاّ أن ننتبه ، ونكون على وعي حتى لانكون جندًا من جنودهم من حيث لانشعر، ومن حيث نعلم أننا نُحْسِن صنعًا .

 

( تحريرًا في الساعة 12 من ضحى يوم الثلاثاء : 19/6/ 1429هـ = 24/6/2008م )

 

نور عالم خليل الأميني

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رجب 1429هـ = يوليو  2008م ، العـدد : 7  ، السنـة : 32